إدكو - المدينه الساحره مدينه الماء والرمال
إدكو
مدينة تقع شمال مصر، على ساحل البحر الأبيض المتوسط، غارقة منذ الأزل في الماء
والرمال. مابين ماء المتوسط شمالا وماء البحيرة المسماة باسمها جنوبا، محاطة بكثبان
رملية ناعمة تكسوها الخضرة في الشتاء فتبدو كجزر عائمة في حضن البحر.
في طريقك للمدينة قادما من الإسكندرية التي لا تبعد عنها أكثر من نصف ساعة في سيارة
عادية، ستمر على نقطة إلتقاء مياه البحر المالحة بمياه البحيرة العذبة، دون أن
يمتزجا، متجاوران بحميمية مدهشة معجزة، وبهما تتجاور أسماك البحر وأسماك البحيرة .
عندما تصل، ستكون في انتظارك رائحة السمك الطازج الذي يرقص فرحا بين أيادي
الصيادين، ينتظر منك نظرة، ينادي عليك الصياد، يغريك بمنظر السمك البلطي الورقي
والحساني والخنيني الذي يخفيه في جردل معدني ويغطيه بأعشاب البحيرة الخضراء، ويجذبك
الآخر يغريك بسمك البحر الذي يلمع بلونه الفضي على طاولات خشبية، بائع أم الخلول
الذي يقف على باب مجلس المدينة، ينادي حلوة يا أم الخلول، تتعجب من هذا الكائن
البحري الذي لا يزيد حجمه عن عقلة إبهامك، ولا تدري أنك بقليل من الملح والليمون
ستحيله إلى أكلة شهية، ولا تتوقع أن يأتي لك أحدهم بحساء أبيض أوأحمر اللون وتكون
أم الخلول هذه مصدره .
ربما يسرح بك فكرك في كيفية استخلاص أم الخلول تلك من البحر، بأي حال من الأحوال لن
تستطيع تخيل ما يجري، فهناك على البحر، صياد ادكاوي، معه شبكة ضيقة الثقوب، مثبتة
بقوائم خشبية مثلثة الشكل، لها يد خشبية بمثابة عصا التحكم في شبكته، على ظهره
أكياس رمل تثبته في البحر فلا يلتهمه الموج، يجرف البحر بشبكته، ينخله، تخرج الرمال
وتبقى أم الخلول، يعود إلى الشاطئ، ويتخلص من أكياس الرمال بالتدريج في رحلة عودته
إلى شاطئ البحر، وعلى الرمال يجلس ليفرزها ويصنفها حسب الحجم، والنوع، فمنها البلدي
الشهي، والإنجليزي بلونه الأحمر الداخلي . مازلت على المحطة أي في مدخل المدينة،
على يمينك محطة القطارات، أعبرها، هنا سترى كيف يصنع هذا القارب الصغير العجيب، ذو
الشكل الإنسيابي الطويل كقوارب فينيسيا العائمة، ستراه ينساب في مياه البحيرة وعليه
صياد وحيد، أو برفقة ابنه الصغير، يدفع المركب بمدرة خشبية ( عصا خشبية غليظة)،
يمسك بشبكته ثم يلقيها عاليا لتأخذ شكل غيمة دائرية، قبل أن تهوى على سطح البحيرة
تأسر أسماك البلطي والطوبار، وتتعجب عندما ترى الصياد يخرج من الماء ( الجوبية )
وهي شرك معدني يشبه الشبك في تقاطعات خيوطه المعدنية، قريبة من المخروط تتسع في
قاعدتها وتضيق في أعلاها، يضعها الصياد في البحيرة ويتركها ليعود إليها في اليوم
التالي ليجد الأسماك حبيسة فيها .
وتشاهد صيادا آخر يخلع ملابسه وينزل في الماء ويغوص، لا يبدو منه شيئ، يتخفى بين
نباتات البوص والبردي، ثم تفاجأ به وقد أمسك بطيور الشتاء المهاجرة القادمة تبحث عن
دفء الشرق، تراه قيد طيور الغر والبلبول والشرشير , من أرجلها الملونة الزاهية،
وأمسكها بين يديه يتيه بغنيمته، ثم يقف على أطراف المدينة يلوح بها لزائري المدينة
أو عابريها، مغريا إياهم ليبتاعوا منه كنزه الملون .
تفرغ من تجوالك على أطراف المدينة وتدخل لتذوب بين أمواج البشر بلونهم المختلط،
أبيض مشوب بحمرة الحملة الفرنسية، أو أبيض محروق بأشعة الشمس وملح البحر والبحيرة،
العيون بلون سعف النخيل، أو عسل النحل، أو بلون رطب البلح، أسود كليل أطراف المدينة
البعيدة عن زحف البناء، محاصر أنت بنخيل البلح، البلح تلون باللون الأحمر والأصفر
والأسود، سيتحول على أيدي النسوة إلى عجوة ومشوي يتم تخزينة لأيام الشتاء، يصنعون
منه حساءا ساخنا يدفئ صباحات الرجال في رحلات حجهم اليومية للبحر والبحيرة، تصادفك
أكوام جريد النخل تنتظر على جدران المنازل، لا تتعجب، فبعد قليل سيأتي ( القفاصون)
من رشيد المجاورة ليحيلوا أكوام الجريد تلك إلى أقفاص استعدادا لموسم جني البلح،
ولن يكتفوا بأقفاص البلح، بل بمهارة فائقة يصنعون أقفاصا أكبر ومستطيلة الشكل لنقل
الطيور إلى الأسواق، ليس هذا فقط، بل يصنعون من الجريد كراسي وطاولات جميلة بديعة،
لا تنسى أن تنظر لسعف النخيل، هذا الورق المدبب الطويل الذي ينزعه القفاصون من
الجريد قبل البدء في عملهم، فهو في أيدي النسوة ورجال العائلة الكبار في السن
سيتحول في سهرة عائلية إلى أوعية من نوع خاص يطلقون عليها القفف والأسبتة وغيرها،
هنا الحياة تقوم على النخيل الباسق في غابات متناثرة ومجتمعة، وعلى الماء الذي يحضن
المدينة .
أمام بيوت الصيادين، تشاهد الشبك وقد امتد بين وتدين، والصياد أو إبنه أو زوجه أو
الجميع معا، منهمكون في إزالة ما علق بها من حشائش البحيرة، ويعيدون ترتيب الأثقال
المعدنية المتشابكة على أطراف الشبك، وعند الإنتهاء يعيدون تجميعها بحب، كثوب عروس
استعدادا لصباح اليوم التالي.
بيوت المدينة رحبة، تحيط بها حدائق مختلفة المساحة، ولكنها تشترك في أشجار النخيل
والليمون والجوافة التي تتطاول لتظلل الرائح والغادي، وتحت هذه الأشجار تجد
الخضروات الورقية السارحة في الرمل الناعم الأصفر .
لن تشعر بالغربة، ستجد جلسات العائلة والجيران على أبواب المنازل، سيعرفون أنك
زائر، لن تسمع غير كلمة ( تفضل إجلس معنا ) وكوب الشاي المغلي بين يديك وطبق البلح
الأحمر يغريك، والجميع يعرض عليك إيصالك للمنزل الذي تقصده، فالكل هنا عائلات
والعلاقات متشابكة . هذه كانت ادكو قبل غزو الفضائيات وقبل اكتشاف الغاز الطبيعي
وقبل مواسم الهجرة الغير شرعية.
ذهبت حميمية اللقاء وبقيت أم الخلول، وغابات النخيل تشهد على زمن عاشت فيه الأحلام،
قبل أن تبسط أجنحتها بين كل السحب، مهاجرة لبلدان يفيض فيها الظلام عن حاجة الليل،
وتفيض فيها الأحزان عن حاجة القلب، وتبقى إدكو كما هي دوما مدينة الماء والرمال.